تشكل مأساة حلبجة ( 16 آذار من عام 1988) حلقة في سلسلة المآسي الكبرى التي مرت في مسيرة البشرية وتاريخ صراعها مع أنظمة الحكم الفاشية والنازية التي تستند للعسكرتارية والقمع السافر للحقوق والحريات، هذه الجريمة التي راح ضحيتها عدد كبير من سكان مدينة حلبجة الوادعة وساحرة الجمال ستبقى آثارها حتى أماد بعيدة جداً، ارتكبت وسط صمت وتستر المجتمع الدولي ودوله العظمى. ومع استذكار هذه الجريمة فإننا نستذكر كل جرائم الإبادة التي حدثت أو ستحدث لاحقاً في أماكن أخرى من العالم، فالجنس البشري لا يتعظ من أخطاء وجرائم الماضي ويمتلك القدرة على الفتك والتدمير وممارسة الإبادة الجماعية. مأساة حلبجة لحظة غائرة وعميقة في ذاكرة الإنسانية وشاهد على فجيعة الإنسان المقموع ومستلب الإرادة .
ومثلما يتم الحديث عن التجاهل والصمت المقيت الذي عوملت به هذه القضية الخطيرة من جانب الإعلام الغربي بسبب تواطؤ الغرب مع صدام في حربه ضد إيران، فأن علينا التحدث عن حجم المتاجرة بهذه القضية من قبل أطراف كثيرة، قد تبدأ من الأحزاب القومية الكردية ولن تنتهي بعديد الكتاب الذين أعلنوا براءتهم من تلك الجريمة وكأنهم كانوا جنوداً فيها أو أنهم كانوا يحرضون أو يدعمون نظام البعث الفاشي لقصف حلبجة بالأسلحة الكيمياوية سواء من خلال الموقف أو بواسطة الكلمة أو ما يسمى بسلاح التبرير.
لقد تاجروا بأرواح ودماء الضحايا. تاجروا بصورة عمر الخباز وهو يحتضن طفله في لحظة موت مروع. تاجروا بكل شيء وعملوا على تصدير أنفسهم كملائكة تدعي البراءة وأنهم الضحية المباشرة لتلك الجريمة، فيما غاب الضحايا الذين تحولت حياتهم الى جحيم في لحظة غادرة .
ونحن نتحدث عن جرائم نظام البعث الفاشي ووحشية وإرهاب صدام حسين وجيشه وأجهزته القمعية القذرة، فإن علينا أن نتذكر كل الجرائم المروعة التي ارتكبها النظام وطوال فترة حكمه الإجرامي الأسود ضد العراقيين وفي معظم مدن العراق، جرائم استهدفت البشر والأرض وكل ما يصادف آلة القمع الدكتاتوري أو ما تصيبه قذائف المدافع أو رصاص الجيش وأجهزة الأمن، لنستنتج إن هذا النظام لم يكن معنياً بمحاربة فئة أو طائفة أو قومية بعينها، إنما كان يجد إن التفكير بالعيش بحرية وكرامة بعيداً عن بطشه وتسلطه يشكل تهديداً لوجوده.
وهنا، في هذا الاستذكار، ينبغي علينا أن نستذكر أيضاً شركاء النظام الفاشي في تلك الجريمة وتحديداً الأطراف التي جعلت من حلبجة وأهلها وبراءة أطفالها ضحية مباشرة لصراعاتها وسياساتها. علينا أن ننستذكر إيران ومساعيها لاحتلال تلك المدينة والمناطق المحيطة بها خلال سنوات الحرب الثماني وجلال الطالباني ونوشيروان مصطفى والإتحاد الوطني الكردستاني والدور الذي مارسوه جميعاً حتى يُقدم نظام صدام حسين على ارتكاب تلك الجريمة المروعة والتي ستفتتح سجلاً دامياً ضد القرى والمناطق الكردية وسكانها في سلسلة علميات إرهابية وإجرامية سميت لاحقاً بالأنفال. لقد كانوا متيقنين تماماً إن إقدامهم على أي فعل ضد النظام الفاشي البعثي سوف يقابل برد فعل كارثي ومدمر من لدن هذا النظام .
يقول الطالباني في جزء من الاتهامات المتبادلة بينه وبين نائبه آنذاك نوشيروان مصطفى: "في خضم تلك الصراعات السياسية والفكرية، وبالرغم من أننا كنا نملك تجارب كبيرة مع الصداميين وبالأخص سياسة صدام خلال الحرب العراقية ـ الإيرانية، وكانت الخصلة الفاشية للنظام قد باتت واضحة، وقد أتضح أيضاً بأن هؤلاء الفاشست لن يتوانوا في إرتكاب أية جريمة، وكانت مفاوضاتنا مع النظام قد إنتكست منذ عام نتيجة النزعة الشوفينية للبعث الصدامي، والتكنولوجيا الحربية والضغوطات الإقليمية، وكنا مدركين لكل هذه الحقائق، ولذا كان لزاماً علينا أن نتصرف بذكاء أكبر وأن لا نعطي أقل المبررات للفاشيين."١.
وفي موضع آخر يقول: "إن الحكومة كانت قد هددتنا في وقت سابق بأن أي هجوم يستهدف أي مكان بالإشتراك مع القوات الإيرانية سيجابه باستعمال الأسلحة الكيماوية حتى لو كانت تلك المدينة السليمانية نفسها."٢.
لو أننا تمعنا قليلاً في الإتهامات المتبادلة بين جلال الطالباني الذي قال بعد وقوع جريمة حلبجة: (إن القصف الكيمياوي لحلبجة قد أوصل قضية الكورد الى المحافل الدولية ... حبذا لو تكررت اثنان او ثلاث حوادث من هذا النوع"٣، ونوشيروان مصطفى والأدوار التي قاموا بها وخلال العديد من الأحداث والجرائم التي نفذوها، جريمة "بشت آشان " على سبيل المثال لا الحصر، لوجدنا أن محاكمة صدام وعلي كيمياوي وباقي رموز النظام عن جريمة حلبجة كانت ناقصة وأن ثمة شركاء آخرين، كان يجب أن يشاركوهم الجلوس في قفص الإتهام وأن يواجهوا حكماً عادلاً يصحح الالتباس ويكشف إن ما حدث في حلبجة كان جريمة مروعة، وإذا كان نظام البعث الفاشي وصدام حسين قد نفذوها بكل وحشية ودموية، فأن ثمة جهات وأطراف عدة قد ساهمت في وقوع تلك الجريمة حتى لو لم تنفذها أو تطلق قذائف الغازات السامة والأسلحة الكيمياوية على مدينة حلبجة وأهلها.
١. نوشيروان مصطفى، من رفقة النضال إلى التخوين.
٢. نفس المصدر.
٣. نفس المصدر